فصل: ذكر حال أهله وأولاده بعده:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر الهدنة مع الفرنج وعود صلاح الدين إلى دمشق:

في العشرين من شعبان من هذه السنة عقدت بين المسلمين والفرنج هدنة لمدة ثلاث سنين وثمانية أشهر، أولها هذا التاريخ، وافق أول أيلول؛ وكان سبب الصلح أن ملك إنكلتار لما رأى اجتماع العساكر، وأنه لا يمكنه مفارقة ساحل البرح، وليس بالساحل للمسلمين بلد يطمع فيه، وقد طالت غيبته عن بلاده، راسل صلاح الدين في الصلح، وأظهر من ذلك ضد ما كان يطلب منه المصاف والحرب، فأعاد الفرنجي رسله مرة بعد مرة، ونزل عن تتمة عمارة عسقلان وعن غزة والداروم والرملة، وأرسل إلى الملك العادل في تقرير هذه القاعدة، فأشار هو وجماعة الأمراء بالإجابة إلى الصلح، وعرفوه ما عند العسكر من الضجر والملل، وما قد هلك من أسلحتهم ودوابهم ونفد من نفقاتهم، وقالوا: إن هذا الفرنجي إنما طلب الصلح ليركب البحر ويعود إلى بلاده، فإن تأخرت إجابته إلى أن يجيء الشتاء وينقطع الركوب في البحر نحتاج للبقاء هاهنا سنة أخرى، وحينئذ يعظم الضرر على المسلمين.
وأكثروا القول له في هذا المعنى، فأجاب حينئذ إلى الصلح، فحضر رسل الفرنج وعقدوا الهدنة، وتحالفوا على هذه القاعدة، وكان في جملة من حضر عند صلاح الدين باليان بن بارزان الذي كان صاحب الرملة ونابلس، فلما حلف صلاح الدين قال له: اعلم أنه ما عمل أحد في الإسلام ما عملت، ولا هلك من الفرنج مثل ما هلك منهم هذه المدة فإننا أحصينا من خرج إلينا في البحر من المقاتلة، فكانوا ستمائة ألف رجل ما عاد منهم إلى بلادهم من كل عشرة واحد، بعضهم قتلته أنت، وبعضهم مات، وبعضهم غرق.
وأما صلاح الدين، فإنه بعد تمام الهدنة سار إلى البيت المقدس، وأمر بإحكام سوره، وعمل المدرسة والرباط والبيمارستان وغير ذلك من مصالح المسلمين، ووقف عليها الوقوف، وصام رمضان بالقدس، وعزم على الحج والإحرام منه، فلم يمكنه ذلك، فسار عنه خامس شوال نحو دمشق، واستناب بالقدس أميراً اسمه عز الدين جورديك، وهو من المماليك النورية.
ولما سار عنه جعل طريقه على الثغور الإسلامية كنابلس وطبرية وصفد وتبنين وقصد بيروت، وتعهد هذه البلاد، وأمر بإحكامها، فلما كان في بيروت أتاه بيمند صاحب أنطاكية وأعمالها، واجتمع به وخدمه، فخلع عليه صلاح الدين وعاد إلى بلده، فلما عاد رحل صلاح الدين إلى دمشق، فدخلها في الخامس والعشرين من شوال، وكان يوم دخوله إليها يوماً مشهوداً، وفرح الناس به فرحاً عظيماً لطول غيبته، وذهاب العدو عن بلاد الإسلام.

.ذكر وفاة قلج أرسلان:

في هذه السنة، منتصف شعبان، توفي الملك قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن سلجوق السلجوقي بمدينة قونية، وكان له من البلاد قونية وأعمالها، وأقصرا، وسيواس، وملطية، وغير ذلك من البلاد، وكانت مدة ملكه نحو تسع وعشرين سنة، وكان ذا سياسة حسنة، وهيبة عظيمة، وعدل وافر، وغزوات كثيرة إلى بلاد الروم، فلما كبر فوق بلاده على أولاده، فاستضعفوه، ولم يلتفتوا إليه، وحجر عليه ولده قطب الدين.
وكان قلج أرسلان قد استناب، في تدبير ملكه، رجلاً يعرف باختيار الدين حسن، فلما غلب قطب الدين على الأمر قتل حسناً، ثم أخذ والده وسار به إلى قيسارية ليأخذها من أخيه الذي سلمها إليه أبوه، فحصرها مدة، فوجد والده قلج أرسلان فرصة، فهرب ودخل قيسارية وحده. فلما علم قطب الدين ذلك عاد إلى قونية وأقصر فملكهما، ولم يزل قلج أرسلان يتحول من ولد إلى ولد، وكل منهم يتبرم به، حتى مضى إلى ولده غياث الدين كيخسرو، صاحب مدينة برغلوا، فلما رآه فرح به، وخدمه، وجمع العساكر، وسار هو معه إلى قونية، فملكها، وسار إلى اقصرا ومعه والده قلج أرسلان، فحصرها، فمرض أبوه، فعاد به إلى قونية فتوفي بها ودفن هناك، وبقي ولده غياث الدين في قونية مالكاً لها، حتى أخذتها منه أخوه ركن الدين سليمان، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وقد حدثني بعض من أثق به من أهل العلم بما يحكيه، وكان قد وصل تلك البلاد بغير هذا، ونحن نذكره، قال إن قلج أرسلان قسم بلاده بين أولاده في حياته، فسلم دوقاط إلى ابنه ركن الدين سليمان، وسلم قونية إلى ولده كيخسر وغياث الدين، وسلم أنقرة، وهي التي تسمى انكشورية إلى ولده محيي الدين، وسلم ملطية إلى ولده معز الدين قيصر شاه، وسلم أبلستين إلى ولده قطب الدين، وسلم نكسار إلى ولد آخر، وسلم أماسيا إلى ولد أخيه.
هذه أمهات البلاد، وينضاف إلى كل بلد من هذه ما يجاورها من البلاد الصغار التي ليست مثل هذه، ثم إنه ندم على ذلك، وأراد أن يجمع الجميع لولده الأكبر قطب الدين، وخطب له ابنه صلاح الدين يوسف، صاحب مصر والشام، ليقوى به، فلما سمع باقي أولاده بذلك امتنعوا عليه، وحرجوا عن طاعته، وزال حكمه عنهم، فسار يتردد بينهم على سبيل الزيارة، فيقيم عند كل واحد منهم مدة، وينتقل إلى الآخر، ثم إنه مضى إلى ولده كيخسرو، صاحب قونية، على عادته، فخرج إليه، ولقيه، وقبل الأرض بين يديه، وسلم قونية إليه وتصرف عن أمره، فقال لكيخسرو: أريد أن أسير إلى ولدي الملعون محمود، وهو صاحب قيسارية، وتجيء أنت معي لأخذها منه؛ فتجهز وسار معه، وحصر محموداً بقيسارية، فمرض قلج أرسلان، وتوفي عليها. فعاد كيخسرو، وبقي كل واحد من الأولاد على البلد الذي بيده.
وكان قطب الدين، صاحب أقصرا وسيواس، إذا أراد أن يسير من إحدى المدينتين إلى الأخرى يجعل طريقه على قيسارية، وبها أخوه نور الدين محمود، وليست على طريقه إنما كان يقصدها ليظهر المودة لأخيه والمحبة له، وفي نفسه الغدر، فكان أخوه محمود يقصده ويجتمع به، ففي بعض المرات نزل بظاهر البلد على عادته، وحضر أخوه محمود عنده غير محتاط، فقتله قطب الدين، وألقى رأسه إلى أصحابه، وأراد أخذ البلد، فامتنع من به من أصحاب أخيه عليه، ثم إنهم سلموه إليه على قاعدة استمرت بينهم.
وكان عند محمود أمير كبير، وكان يحذره من أخيه قطب الدين ويخوفه، فلم يصغ إليه، وكان جواداً، كثير الخير، والتقدم في الدولة عند نور الدين، فلما قتل قطب الدين أخاه قتل حسناً معه، وألقاه على الطريق، فجاء كلب يأكل من لحمه، فثار الناس، وقالوا: لا سمعاً ولا طاعة! هذا رجل مسلم، وله هاهنا مدرسة، وتربة، وصدقات دارة، وأفعال حسنة، لا نتركه تأكله الكلاب؛ فأمر به فدفن في مدرسته، وبقي أولاد قلج أرسلان على حالهم.
ثم إن قطب الدين مرض ومات، فسار أخوه ركن الدين سليمان صاحب دوقاط إلى سيواس، وهي تجاوره، فملكها، ثم سار منها إلى قيسارة وأقصرا، ثم بقي مديدة، وسار إلى قونية وبها أخوه غياث الدين، وفحصره بها وملكها ففارقها غياث الدين إلى الشام، ثم إلى بلد الروم، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى؛ ثم سار بعد ذلك إلى ركن الدين إلى نكسار وأماسيا، فملكها، وسار إلى ملطية سنة سبع وتسعين وخمسمائة، فملكها وفارقها أخوه معز الدين إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان معز الدين هذا تزوج ابنة للعادل، فأقام عنده. واجتمع لركن الدين ملك جميع الإخوة ما عدا أنقرة فإنه منيعة لا يوصل إليها، فجعل عليها عسكراً يحصرها صيفاً وشتاء ثلاث سنين، فتسلمها سنة إحدى وستمائة، ووضع على أخيه الذي كان بها من يقتله إذ فارقها، فلما سار عنها قتل.
وتوفي ركن الدين في تلك الأيام، ولم يسمع خبر قتل أخيه بل عاجله الله تعالى لقطع رحمه.
وإنما أوردنا هذه الحادثة هاهنا لنتبع بعضها بعضاً، ولأني لم أعلم تاريخ كل حادثة منها لأثبتها فيه.

.ذكر ملك شهاب الدين أجمير وغيرها من الهند:

قد ذكرنا سنة ثلاث وثمانين غزوة شهاب الدين الغوري إلى بلد الهند، وانهزامه، وبقي إلى الآن وفي نفسه الحقد العظيم على الجند الغورية الذين انهزموا، وما ألزمهم من الهوان.
فلما كان هذه السنة خرج من غزنة وقد جمع عساكره وسار منهم يطلب عدوه الهندي الذي هزمه تلك النوبة، فلما وصل إلى برشاوور تقدم إليه شيخ من الغورية كان يدل عليه، فقال له: قد قربنا من العدو؛ وما يعلم أحد أني نمضي ولا من نقصد ولا نرد على الأمراء سلاماً، وهذا لا يجوز فعله، فقال له السلطان: اعلم أنني منذ هزمني هذا الكافر ما نمت مع زوجتي، ولا غيرت ثياب البياض عني، وأنا سائر إلى عدوي، ومعتمد على الله تعالى لا على الغورية، ولا على غيرهم، فإن نصرني الله، سبحانه، ونصر دينه فمن فضله وكرمه، وإن انهزمنا فلا تطلبوني فيمن انهزم، ولو هلكت تحت حوافر الخيل.
فقال له الشيخ: سوف ترى بني عمك من الغورية ما يفعلون، فينبغي أن تكلمهم وترد سلامهم. ففعل ذلك، وبقي أمراء الغورية يتضرعون بين يديه، ويقولون سوف ترى ما نفعل.
وسار إلى أن وصل إلى موضع المصاف الأول، وجازه مسيرة أربعة أيام، وأخذ عدة مواضع من بلاد العدو، فلما سمع الهندي تجهز، وجمع عساكره، وسار يطلب المسلمين، فلما بقي بين الطائفتين مرحلة عاد شهاب الدين وراءه والكافر في أعقابه أربع منازل، فأرسل الكافر إليه يقول له: أعطني يدك، إنك تصاففني في باب غزنة حتى أجيء وراءك إلا فنحن مثقلون، ومثلك لا يدخل البلاد شبه اللصوص ثم يخرج هارباً، ما هذا فعل السلاطين، فأعاد الجواب: إنني لا أقدر على حربك.
وتم على حاله عائداً إلى أن بقي بينه وبين بلاد الإسلام ثلاثة أيام، والكافر في أثره يتبعه، حتى لحقه قريباً من مرندة فجرد شهاب الدين من عسكره سبعين ألفاً، وقال: أريد هذه الليلة تدورون حتى تكونوا وراء عسكر العدو، وعند صلاة الصبح تأتون أنتم من تلك الناحية، وأنا من هذه الناحية؛ ففعلوا ذلك، وطلع الفجر.
ومن عادة الهنود أنهم لا يبرحون من مضجعهم إلى أن تطلع الشمس، فلما أصبحوا حمل عليهم عسكر المسلمين من كل جانب، وضربت الكوسات، فلم يلتفت ملك الهند إلى ذلك وقال: من يقدم علي، أنا هذا؟ والقتل قد كثر في الهنود، والنصر قد ظهر للمسلمين؛ فلما رأى ملك الهند ذلك أحضر فرساً له سابقاً، وركب ليهرب، فقال له أعيان أصحابه: إنك حلفت لنا أنك لا تخلينا وتهرب؛ فنزل عن الفرس وركب الفيل ووقف موضعه، والقتال شديد، والقتل قد كثر في أصحابه، فانتهى المسلمون إليه وأخذوه أسيراً، وحينئذ عظم القتل والأسر في الهنود، ولم ينج منهم إلا القليل.
وأحضر الهندي بين يدي شهاب الدين، فلم يخدمه فأخذ بعض الحجاب بلحيته، وجذبه إلى الأرض، حتى أصابها جبينه، وأقعده بين يدي شهاب الدين، فقال له شهاب الدين: لو استأسرتني ما كنت تفعل بي؟ فقال الكافر: كنت استعملت لك قيداً من ذهب أقيدك به، فقال شهاب الدين: بل نحن ما نجعل لك من القذر ما نقيدك.
وغنم المسلمون من الهنود أموالاً كثيرة وأمتعة عظيمة، وفي جملة ذلك أربعة عشر فيلاً، من جملتها الفيل الذي جرح شهاب الدين في تلك الوقعة. وقال ملك الهند لشهاب الدين: إن كنت طالب بلاد، فما بقي فيها من يحفظها، وإن كنت طالب مال، فعندي أموال تحمل أجمالك كلها.
فسار شهاب الدين وهو معه إلى الحصن الذي له يعول عليه، وهو أجمير، فأخذه، وأخذ جميع البلاد التي تقاربه، وأقطع جميع البلاد لمملوكه قطب الدين أيبك، وعاد إلى غزنة، وقتل ملك الهند.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة قبض على أمير الحاج طاشتكين ببغداد، وكان نعم الأمير، عادلاً في الحاد، رفيقاً بهم، نحباً لهم، له أوراد كثيرة من صلوات وصيام، وكان كثير الصدقة، لا جرم، وقفت أعماله بين يديه فخلص من السجن، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها خرج السلطان طغرل بن أرسلان بن طغرل من الحبس بعد موت قزل أرسلان بن إيلدكز، والتقى هو وقتلغ إينانج بن البهلوان بن إيلدكز، فانهزم إينانج إلى الري، وكان ما نذكره، إن شاء الله تعالى، سنة تسعين وخمسمائة.
وفيها، في رجب، توفي الأمير السيد علي بن المرتضى العلوي الحنفي مدرس جامع السلطان ببغداد.
وفي شعبان منها توفي أبو علي الحسن بن هبة الله بن البوقي، الفقيه الشافعي الواسطي، وكان عالماً بالمذهب انتفع به الناس. ثم دخلت:

.سنة تسع وثمانين وخمسمائة:

.ذكر وفاة صلاح الدين وبعض سيرته:

في هذه السنة في صفر، توفي صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي، صاحب مصر والشام والجزيرة وغيرها من البلاد، بدمشق، ومولده بتكريت، وقد ذكرنا سبب انتقالهم منها، وملكهم مصر سنة أربع وستين وخمسمائة.
وكان سبب مرضه أن خرج يتلقى الحاج، فعاد، ومرض من يومه مرضاً حاداً بقي به ثمانية أيام وتوفي، رحمه الله.
وكان قبل مرضه قد أحضر ولده الأفضل علياً وأخاه الملك العادل أبا برك، واستشارهما فيما يفعل، وقال: قد تفرغنا من الفرنج، وليس لنا في هذه البلاد شاغل، فأي جهة نقصد؟ فأشار عليه أخوه العادل بقصد خلاط، لأنه كان قد وعده، إذا أخذهتا، أن يسلمها إليه، وأشار ولده الأفضل بقصد بلد الروم التي بيد أولاد قلج أرسلان، وقال: هي أكثر بلاداً وعسكراً ومالاً وأسرع مأخذاً، وهي أيضاً طريق الفرنج إذا خرجوا على البر، فإذا ملكناها منعناهم من العبور فيها. فقال: كلاكما مقصر، ناقص الهمة، بل أقصد أنا بلد الروم، وقال لأخيه: تأخذ أنت بعض أولادي وبعض العسكر وتقصد خلاط، فإذا فرغت أنا من بلد الروم جئت إليكم، وندخل منها أذربيجان، ونتصل ببلاد العجم، فما فيها من يمنع عنها.
ثم أذن لأخيه العادل في المضي إلى الكرك، وكان له، وقال له: تجهز واحضر لتسير؛ فلما سار إلى الكرك مرض صلاح الدين، وتوفي قبل عوده.
وكان رحمه الله، كريماً، حليماً، حسن الأخلاق، متواضعاً، صبوراً عل ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يعلمه بذلك ولا يتغير عليه.
وبلغني أنه كان يوماً جالساً وعنده جماعة، فرمى بعض المماليك بعضاً بسرموز فأخطأته ووصلت إلى صلاح الدين فأخطأته ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه ليتغافل عنها.
وطلب مرة الماء فلم يحضر، وعاود الطلب في مجلس واحد خمس مرات فلم يحضر، فقال: يا أصحابنا، والله قد قتلني العطش! فأحضر الماء، فشربه ولم ينكر التواني في إحضاره.
وكان مرة قد مرض مرضاً شديداً أرجف عليها بالموت، فلما برئ منه وأدخل الحمام كان الماء حاراً، فطلب ماء بارداً، فأحضره الذي يخدمه، فسقط من الماء شيء على الأرض، فناله منه شيء، فتأمل له لضعفه، ثم طلب البارد أيضاً، فأحضر، فلما قاربه سقطت الطاسة على الأرض، فوقع الماء جميعه عليه، فكاد يهلك، فلم يزد على أن قال للغلام: إن كنت تريد قتلي فعرفني! فاعتذر إليه، فسكت عنه.
وأما كرمه، فإنه كان كثير البذل لا يقف في شيء يخرجه، ويكفي دليلاً على كرمه أنه لما مات لم يخلف في خزائنه غير دينار واحد صوري، وأربعين درهماً ناصرية، وبلغني أنه أخرج في مدة مقام على عكا قبالة الفرنج ثمانية عشر ألف دابة من فرس وبغل سوى الجمال، وأما العين والثياب والسلاح فإنه لا يدخل تحت الحصر، ولما انقرضت الدولة العلوية بمصر أخذ من ذخائرهم من سائر الأنواع ما يفوت الإحصاء ففرقه جميعه.
وأما تواضعه، فإنه كان ظاهراً لم يتكبر على أحد من أصحابه، وكان يعيب الملوك المتكبرين بذلك، وكان يحضر عنده الفقراء والصوفية، ويعمل لهم السماع، فإذا قام أحدهم لرقص أو سماع يقوم له فلا يقعد حتى يفرغ الفقير.
ولم يلبس شيئاً مما ينكره الشرع، وكان عنده علم ومعرفة، وسمع الحديث وأسمعه، وبالجملة كان نادراً في عصره، كثير المحاسن والأفعال الجميلة، عظيم الجهاد في الكفار، وفتوحه تدل على ذلك، وخلف سبعة عشر ولداً ذكراً.

.ذكر حال أهله وأولاده بعده:

لما مات صلاح الدين بدمشق كان معه بها ولده الأكبر والأفضل نور الدين علي، وكان قد حلف له العساكر جميعها، غير مرة، في حياته، فلما مات ملك دمشق، والساحل، والبيت المقدس، وبعلبك، وصرخد، وبصرى، وبانياس، وهونين، وتبنين، وجمع الأعمال إلى الداروم.
وكان ولده الملك العزيز عثمان بمصر، فاستولى عليها، وعلى جميع أعمالها، مثل: حارم، وتل باشر، وإعزاز، وبرزية، ودرب ساك، ومنبج وغير ذلك.
وكان بحماة محمود بن تقي الدين عمر فأطاعه وصار معه.
وكان بحمص شيركوه بن محمد بن شيركوه، فأطاع الملك الأفضل.
وكان الملك العادل قد سار إليه، كما ذكرنا، فامتنع فيه، لم يحضر عند أحد من أولاد أخيه، فأرسل إليه الملك الأفضل يستدعيه ليحضر عنده، فوعده ولم يفعل، فأعاد مراسلته، وخوفه من الملك العزيز، صاح مصر، ومن أتابك عز الدين، صاحب الموصل، فإنه كان قد سار عنها إلى بلاد العادل الجزرية، على ما نذكره، ويقول له: إن حضرت جهزت العساكر وسرت إلى بلادك فحفظتها، وإن أقمت قصدك أخي الملك العزيز لما بينكما من العداوة، وإذا ملك عز الدين بلادك فليس له دون الشام مانع؛ وقال لرسوله: إن حضر معك، وإلا فقل له قد أمرني، إن سرت إليه بدمشق عدت معك، وإن لم تفعل أسير إلى الملك العزيز أحالفه على ما يختار.
فلما حضر الرسول عنده وعده بالمجيء، فلما رأى أن ليس معه منه غير الوعد أبلغه ما قيل له في معنى موافقة العزيز، فحينئذ سار إلى دمشق، وجهز الأفضل معه عسكراً من عنده، وأرسل إلى صاحب حمص، وصاحب حماة، وإلى أخيه الملك الظاهر بحلب، يحثهم على إنفاذ العساكر مع العادل إلى البلاد الجزرية ليمنعها من صاحب الموصل، ويخوفهم إن هم لم يفعلوا.
ومما قال لأخيه الظاهر: قد عرفت صحبة أهل الشام لبيت أتابك، فوالله لئن ملك عز الدين حران ليقومن أهل حلب عليك، ولتخرجن منها وأننت لا تعقل، وكذلك يفعل بي أهل دمشق، فاتفقت كلمتهم على تسيير العساكر معه، فجهزوا عساكرهم وسيروها إلى العادل وقد عبر الفرات. فعسكرت عساكرهم بنواحي الرها بمرج الريحان، وسنذكر ما كان منه إن شاء الله تعالى.

.ذكر مسير أتابك عز الدين إلى بلاد العادل وعوده بسبب مرضه:

لما بلغ أتابك عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، صاحب الموصل، وفاة صلاح الدين جمع أهل الرأي من أصحابه، وفيهم مجاهد الدين قايماز، كبير دولته، والمقدم على كل من فيها، وهو نائبه فيهم، واستشارهم فيما يفعل، فسكتوا.
فقال له بعضهم، وهو أخي مجد الدين أبو السعادات المبارك: أنا أرى أنك تخرج مسرعاً جريدة فيمن خف من أصحابك وحلقتك الخاص، وتتقدم إلى الباقين باللحاق بك، وتعطي من هو محتاج إلى شيء ما يتجهز به ما يخرجه ويلحق بك إلى نصيبين، وتكاتب أصحاب الأطراف مثل مظفر الدين بن زين الدين، وصاحب إربل، وسنجر شاه ابن أخيك صاحب جزيرة ابن عمر، وأخيك عماد الدين صاحب سنجار ونصيبين، تعرفهم أنك قد سرت، وتطلب منهم المساعدة وتبذل لهم اليمين على ما يلتمسونه، فمتى رأوك قد سرت خافوك، وإن أجابك أخوك صاح بسنجار ونصيبين إلى الموافقة، وإلا بدأ بنصيبين فأخذتها وتركت عسكره مقابل أخيك يمنعه الحركة، إن أرادها، أو قصدت الرقة، فلا تمنع نفسها، وتأتي حران والرها، فليس فيها من يحفظها لا صاحب ولا عسكر ولا ذخيرة، فإن العادل أخذهما من ابن تقي الدين، ولم يقم فيهما ليصلح حالهما، وكان القوم يتكلون على قوتهم، فلم يظنوا هذا الحادث، فإذا فرغت من ذلك الطرف عدت إلى من امتنع من طاعتك فقاتلته، وليس وراءك ما تخاف عليه، فإن بلدك عظيم لا يبالي بكل من وراءك.
فقال مجاهد الدين: المصلحة أننا نكاتب أصحاب الأطراف، ونأخذ رأيهم في الحركة، ونستميلهم، فقال له أخي: إن أشاروا بترك الحركة تقبلون منهم؟ قال: لا! قال: إنهم لا يشيرون إلا بتركها، لأنهم لا يريدون أن يقوى هذا السلطان خوفاً منه، وكأني بهم يغالطونكم ما دامت البلاد الجزرية فارغة من صاحب وعسكر فإذا جاء إليها من يحفظها جاهروكم بالعداوة.
ولم يمكنه أكثر من هذا القول خوفاً من مجاهد الدين، حيث رأى ميله إلى ما تكلم به، فانفصلوا على أن يكاتبوا أصحاب الأطراف، فكاتبوهم، فكل أشار بترك الحركة إلى أن ينظر ما يكون من أولاد صلاح الدين وعمهم فتثبطوا.
ثم إن مجاهد الدين كرر المراسلات إلى عماد الدين، صاحب سنجار، يعده ويستميله، فبينما هم على ذلك إذ جاءهم كتاب الملك العادل من المناخ بالقرب من دمشق، وقد سار عن دمشق إلى بلاده، يذكر فيه موت أخيه، وأن البلاد قد استقرت ولده الملك الأفضل، والناس متفقون على طاعته، وأنه هو المدبر لدولة الأفضل، وقد سيره في عسكر جم، كثير العدد، لقصد ماردين لما بلغه أن صاحبها تعرض إلى بعض القرى التي له، وذكر من هذا النحو شيئاً كثيراً، فظنوه حقاً وأن قوله لا ريب فيه، ففتروا عن الحركة، وذلك الرأي، فسيروا الجواسيس، فأتتهم الأخبار بأنه في ظاهر حران نحو من مائتي خيمة لا يغر، فعادوا فتحركوا، فإلى أن تقررت القواعد بينهم وبين صاحب سنجار، وصلته العساكر الشامية التي سيرها الأفضل وغيره إلى العادل، فامتنع بها وسار أتابك عز الدين عن الموصل إلى نصيبين، واجتمع هو وأخوه عماد الدين بها، وساروا على سنجار نحو الرها، وكان العادل قد عسكر قريباً منها بمرج الربحان، فخافهم خوفهاً عظيماً.
فلما وصل أتابك عز الدين إلى تل موزن مرض بالإسهال، فأقام عدة أيام فضعف عن الحركة، وكثر مجيء الدم من، فخاف الهلاك، فترك العساكر مع أخيه عماد الدين وعاد جريدة في مائتي فارس، ومعه مجاهد الدين وأخي مجد الدين، فلما وصل إلى دنيسر استولى عليه الضعف، فأحضر أخي وكتب وصية، ثم سار فدخل الموصل وهو مريض أول رجب.

.ذكر وفاة أتابك عز الدين وشيء من سيرته:

في هذه السنة توفي أتابك عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي بن أاقسنقر، صاحب الموصل، بالموصل، وقد ذكرنا عوده إلهيا مريضاً، فبقي في مرضه إلى التاسع والعشرين من شعبان، فتوفي، رحمه الله، ودفن بالمدرسة التي أنشأها مقابل دار الملكة، وكان قد بقي ما يزيد على عشرة أيام لا يتكلم إلا بالشهادتين، وتلاوة القرآن، وإذا تكلم بغيرها استغفر الله، ثم عاد إلى ما كان عليه، فرزق خاتمة خير، رضي الله عنه.
وكان، رحمه الله، خير الطبع، كثير الخير والإحسان، لا سيما إلى شيوخ قد خدموا أباه، فإنه كان يتعهدهم بالبر والإحسان، والصلة والإكرام، ويرجع إلى قولهم، ويزور الصالحين، ويقربهم، ويشفعهم.
وكان حليماً، قليل المعاقبة، كثير الحياء، لم يكلم جليساً له إلا وهو مطرق، وما قال في شيء يسأله: لا، حياء وكرم طبع.
وكان قد حج، ولبس بمكة، حرسها الله، خرقة التصوف، وكان يلبس تلك الخرقة كل ليلة، ويخرج إلى المسجد قد بناه في داره، ويصلي فيه نحو ثلث الليل؛ وكان رقيق القلب، شفيقاً على الرعية.
بلغني عنه أنه قال، بعض الأيام: إنني سهرت الليلة كثيراً، وسبب ذلك أني سمعت صوت نائحة، فظننت أن ولد فلان قد مات، وكان قد سمع أنه مريض، قال: فضاق صدري، وقمت من فراشي أدور في السطح، فلما طال علي الأمر أرسلت خادماً إلى الجاندارية، فأرسل منهم واحداً يستعلم الخبر، فعاد وذكر إنساناً لا أعرفه، فسكن بعض ما عندي فنمت، ولم يكن الرجل الذي ظن أن ابنه مات من أصحابه إنما كان من رعيته.
كان ينبغي أن تتأخر وفاته، وإنما قدمناها لتتبع أخباره بعضها بعضاً.